Canalblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Publicité
KALIMATE كلمات
8 mai 2012

رواية "ذاكرة الجراح"... كتابة الحياة

ذاكرة الْجِراح... كتابة الحياة

محمد خفيفي

  د. محمد خـفـيفي



    غلاف ذاكرة الجراح                                    

في مساره الإبداعي ظل توفيقي بلعيد مخلصا لهذا التوزع الوجداني بين كتابة الشعر وكتابة الرواية، رصيده من الأول ديوانان(منعطفات سائبة 1996، وقصائد واجمة  التي فازت بجائزة ناجي نعمان الأدبية سنة 2007)،ومن الرواية " ذاكرة الجراح" سنة 2001،" شروخ الأعماق" سنة 2005 ،المزج بين الفنين خاصية إبداعية لا تلين إلا لمن انقادت له الكتابة وأطاعته.

وإذا كانت رواية " ذاكرة الجراح" هي العمل الروائي الأول لتوفيقي بلعيد، فقد صهر فيها جهدا إبداعيا مرتبطا بالموضوع الأساس الذي جعله محور الكتابة وفلكها الذي تدور حوله باقي التيمات، ونعني به موضوع الاعتقال السياسي الذي تعرض له الكاتب وعاني تبعاته سواء في السجن أو خارج السجن. وتحول لحافز إضافي يجعل من المهام الأساسية للكتابة فضح ماحدث وتعرية بعض الملابسات التي صاحبت المرحلة .

نصنف هذه الرواية ضمن التخييل الذاتي، وموجب هذا التصنيف هو ابتعاد الكاتب عن وسمها بالسيرة الذاتية، فهل كانت الأنا في حاجة إلى أنا ثانية تنوب عنها وتقوم بسرد الأحداث والوقائع، أم أن الأنا الأولى تشكك في قدرتها على جمع ما تفرق وبدأ يتلاشى، من منهما على علاقة حميمية بالذاكرة حتى يراودها عن نفسها ويستخلص منها دقائق وتفاصيل ما جرى؟ .

إن انسياق المقول تحت جنس الرواية يوسع من خاصيات الشهادة والبوح بالنسبة للكاتب بحكم أن هناك وقائع تاريخية حصلت فعلا تجعل السرد مقيدا بها، ولا يمكن تعديلها إلا في حدود ما يمتلكه التخييل الذاتي من عوالم ترتبط بالتجربة الذاتية، ومهارات سردية تجلي القدرة على بناء عوالم منفتحة على كل الاحتمالات.

إننا أمام سيرة تخييلية تستوحي أحداثا عاشها وعايشها السارد الكاتب وتفاعل معها في حدود العلاقات الاجتماعية التي كانت تهيؤه للاقتراب من جغرافيات دون أخرى، وتجعل السارد يتماهى كلية مع المؤلف(توفيقي بلعيد) خصوصا حينما يصرف الكلام بضمير المتكلم .

وسنحاول الاقتراب من هذه الرواية انطلاقا من نصوصها الموازية بما تمتلكه من أنظمة دالة  توسع من دائرة التلقي وتشحن التأويل بمعطيات إضافية  تجلي في نهاية المطاف قدرة الكاتب على تنويع المدارات السردية . 

 

العنـــــــــــــــــــــــوان:

العنوان صوت حواري، وفضاء تتلاقى عنده أنماط من الصور والمجازات، مفتاح للقراءة والتأويل، بوابة العبور إلى النص، بالإضافة إلى كونه علامة لها وضعيتها المستقلة والقائمة بذاتها بالرغم من وظيفتها التي تتعالق فيها مع النص.

ذاكرة الجراح جملة اسمية تنزاح عن اللغة التقريرية وتنخرط في مناخ مجازي عن طريق إسناد الذاكرة إلى الجراح ، في الأصل الجراح لا تتذكر ، لا ذاكرة لها،ربما تقول البيولوجيا غير ذلك في يوم من الأيام،لكنها في اللغة المجازية تصبح مالكة لهذه الخاصية،الذاكرة تسبق الجراح عكس رواية الكاتب السعودي تركي الحمدي "جروح الذاكرة" تلك التي صور فيها انتقال المجتمع السعودي من حقبة ما قبل النفط إلى ما بعده، فللترتيب دلالته إذ سيكون التذكر دعامة سردية تنبني عليها رواية توفيقي بلعيد، ولبنة رئيسية لتشييد صرح الرواية"تحاصرك الذاكرة من جديد، لأن ذاكرة المطعونين من الخلف والمظلومين والذين خدعوا لا يمكن أن تنطفئ أو تخبو..تتذكر أول ساعات اعتقالك الأول"(ص158.)

في تعريف الذاكرة نجد أنها ملكة الاحتفاظ بالمعلومات وتخزينها،وأنها مجموعة من الخبرات الشخصية كما هي مسجلة في دماغ الإنسان، وهي كذلك مستودع التجارب والانطباعات التي اكتسبها الإنسان في حياته عن طريق الحواس والعالم الخارجي، وهي انطباعات ترد على شكل صور ذهنية ترتبط معها أحاسيس ومشاعر سارة أو غير سارة. إنها القدرة على التذكر الذي لا يمكن أن يتم إلا ضمن إطار اجتماعي معين.

ذاكرة توفيقي بلعيد لا يمكن فصلها عن ذاكرة جمعية يشترك فيها  كل المغاربة، ونحن هنا لا نتحدث عن ذاكرة جماعية، بل جمعية بالمعنى الذي وضحه "موريس هالبواكس" حيث المجتمع يسهر على وضع نسق جمعي يجعل الخبرات الفردية قابلة للتذكر والتأويل. العميق في الرواية أنها تعود لهذه الذاكرة الجمعية في محاولة لترميمها ضد النسيان.

"تذكرت الشهداء واحدا واحدا، وآمنت أنهم الآن عكس جلاديهم، أحياء بيننا يرزقون.. . ومع السنوات تذكرت الرفاق والإخوان والأصدقاء فردا فردا وجماعة جماعة.. تذكرت الذين احتضنوك صغيرا..

تذكرت أولئك الذين قضيت معهم من العمر، داخل أقبية السجون، أكثر مما قضيت مع أسرتك....تذكرت كل الشرفاء...(ص24 )

لقد حدد المنظر والمؤرخ الفرنسي بييرنورا Nora Pierre  في كتابه"أماكن الذاكرة" ماهية الذاكرة الجمعية اعتمادا على مقابلات حسية تحددها فضاءات جغرافية وأعمال فنية وشخصيات تاريخية ونصوص فلسفية..باستحضار هذا الطرح يكون المعتقلون، والسجن، وتاريخ الاعتقال، والمحاكمة أماكن لتوهج الذاكرة في النص الروائي في حربها ضد الإقصاء والتهميش والنسيان.

الجراح مفرد جرح، وجرح يجرح أي أثر فيه بالسلاح وغيره، في التعريف الطبي قطع أو تهتك في الأنسجة سواء كان نسيجا جلديا أو غشاء مخاطيا أو عضلات أو أوتارا أو أوعية دموية، في لغة القانون هو كل فعل يترك أثرا بجسم المجني عليه ظاهريا أو باطنيا كقطع الأنسجة أو حصول وخز أو تسلخ أو كدمة أو حرق أو كسر في العظام.

في اللغة الشعرية تحوز الجراح معاني تبتعد عن الدلالة المادية للكلمة حيث تؤشر على الأضرار النفسية التي تخلفها أسلحة من نوعية أخرى)اللسان، العين..(، نستحضر في ذلك قول المتنبي:

جراحات السنان لها التئام    ولا يلتئم ما جرح اللسان.

الجراحات العضوية تلتئم،لكن ندوب الجراح النفسية تظل عالقة وموشومة يعاودها النزيف كلما تحركت الذاكرة في اتجاه استحضار اللحظات المرتبطة بها وبأحداثها. تلك هي العلاقة بين الذاكرة وجراحاتها، في عمق كل جرح عضوي أو نفسي تاريخ منسي توقظه الذاكرة إما بالتذكر أو الكتابة .

يتم الاحتماء بالذاكرة كمعادل موضوعي لمواجهة الانهيار، والذاكرة لا تفتح أقانيمها إلا عبر الكتابة التي تتحول حروفها إلى بلسم يداوي ما تعفن من جراح انكتبت على الجسد وفيه، غير أنها تنتقي ما يؤمن حمايتها ويعصمها من التلف والعطب، لذلك اختارت الذاكرة أن توقظ من العوالم ما ظل متوهجا فيها: الطفولة/الحلم/المرأة/ العلاقة بين الرفاق/ محاكمة1973/الغربة والاغتراب.

بذلك يكون العنوان مؤسسا لعالم تخييلي تنفتح فيه الدلالات على عالم الاعتقال المسيج بالذكريات المرة والأحداث المؤلمة .

 

الخطـــــاب المقدماتــــــي:

 

إن كان من خاصية المقدمة كما يقول "هنري ميتران" أنها وثيقة حول نظرية الجنس الروائي، وتشكل ملحقا بالنص المقدم له، فإنها في" ذاكرة الجراح" تظل علامة فارقة لا يمكن تجاوزها  أو إغفال دلالاتها، إنها تمتلك إشارات التوضيح  والاعتراف والتعريف والامتنان، فقد استحوذ التقديم ثلاث صفحات بثلاث عناوين .

1- تقديم جامع

 ونعتناه بالجامع لأنه يختزل بلغة نقدية قارءة ملخصة، مضمون الرواية حينما ينعتها بأنها" نصب تذكاري لأشخاص،علاقات وأحداث، طالتها يد الزمان بالتعيير والعبث والإهمال، أتمنى أن أكون قد استطعت أن أرمم ذاكرتنا الجماعية ضدا على النسيان"، كما يحدد هذا التقديم الأفق السياسي الذي تطمح إليه من خلال تشديدها على رغبة معلنة بأن لا يتكرر ما حدث،"لعلنا نتمكن يوما من طي صفحاتها المؤلمة لنمسح عن صدور الضحايا ما تراكم من آلام وأحزان.. . بعيدا عن إضافة مآسي جديدة".

إن هذا التقديم الذي يستوطن الصفحة الأولى من الرواية مهم في توجيه القراءة وتقريب طبيعة العمل الأدبي وهويته النصية وكذا انفتاحه على أفق انتظار مغري بإشارته إلى الذاكرة الجمعية التي يعرف الجميع حجم الثقوب الكثيرة التي أصابتها..وبذلك يصبح البعد التحريضي قائما لاستفزاز كل من له اهتمام بتاريخ المغرب المعاصر ويرغب في قراءة صدامية مع التاريخ الرسمي.

 

2- إهداء خاص/ دواعي التأليف

المقدمة الثانية نستقبلها أيضا كخطاب موازي لا يتعارض مع مضمون الرواية،  بل يبئر معطيات سردية أولاها السارد اهتماما خاصا، فالإهداء موجه لكل أمهات السجناء ثم إلى والدة المؤلف وأخته ثم بعد ذلك خليته الصغيرة الزوجة والأبناء. وعلى اعتبار أن هذا الإهداء تحضر فيه المرأة بشكل عام فإن ذلك ينسجم تماما مع ما بثه السرد من احتفاء بالمرأة مجسدا في أمهات السجناء أو في رفيقات السارد أو في أمه وأخته، وكل واحدة منهن تجسد مواقف بطولية سواء في مواجهة المستعمر القديم والجديد، أو في مواجهة الظروف القاهرة للعيش، أو في مواجهة الاعتقال وتبعاته.

لقد استطاع السرد في مرات عديدة أن يلم بهذه الخاصيات المشتركة عند الحديث عن أم السارد التي لا تحضر إلا بمقارنتها بغيرها من الأمهات، إنها رمز تتمثل فيه أمهات العالم"ستبقى الأم،كل أم عبر التاريخ البشري وفي أية بقعة من العالم، وعلى حافة كل حرب أهلية أو صراع طبقي، مسنودة بالأخت والأخ والزوجة المخلصة ترفع شعارين:

- اكشفوا عن مصير ابني..." وعندما يتم الكشف عنه وتراه، تنطلق المرحلة الأخرى للشعار:أطلقوا سراح ابني...(ص54)

لهذا الإهداء شحنته العاطفية العميقة حينما نفهم طبيعة العلاقة  التي كانت بين المعتقل وأمه وأخته من أبيه التي ربته، فقد عاش طفولة ميزها عدم الاستقرار بعد أن أُخذ عنوة من أمه لتربيه أخته" التي بدأت تحلم بحيازة أطفال أبيها بعد فصلهما عن أمهما"، وعاش في كنفها كأم لم تبخل عليه من عطفها واهتمامها.تعلم منها الشيء الكثير، ومنها تشرب حمأة النضال والتمرد ورفض الاستغلال، فقد كانت امرأة مناضلة، قوية الشخصية،هربت صور الزعماء أيام الاستعمار، وخبأت الأسلحة وساعدت من أجل تغطية انسحاب الفدائيين ومارست التمويه كي لا تطالهم يد العملاء والاستعمار، وانخرطت في التظاهرات والتجسس على الأعداء..."تزوجت رجالا كثيرين أغلبهم عاطلا عن العمل وحتى الذين كانوا يعملون لا تلبث أن تقعدهم.. كانت تشتغل خارج الدار وهم يشتغلون داخلها...كانوا يطبخون ويصبنون وأحيانا كثيرة يتلقون منها الصفعات والسباب..."(ص95)

امرأة بمثل هذه المواصفات لا بد أن تترك بصماتها في الطفل وتوجه ميولاته واختياراته، ولكن ذلك لم يبعد الطفل عن أمه الحقيقية، ولم يغيبها عن وجدانه،"لذلك لم تفهم النساء اللواتي عرفناك،بعد خروجك الأول، هذه العلاقة، لأنهن كن يجهلن الحبل السري للألم الذي يربطك بأمك..وهذا الحب الذي تفجر بعد الوجع، وهذا التفاهم الكبير الذي مهرته سنوات الاعتقال الطويلة"(ص57)

تكريم المرأة تعمقه الرواية في توقفها عند زوجات بعض المناضلين، فقد أبدى المعتقل إكباره بجوسلين زوجة الشاعر عبد اللطيف اللعبي لدورها في مؤازرة زوجها وكذا فضح ما لحق المناضلين من عنف وظلم وتعذيب،إنهن المثال العظيم للتضحية والوفاء،فزوجة أمين"كرست العشر سنوات لتربية الابن ولتطوير نفسها حتى إذا ما خرج الزوج وجد المرأة البسيطة  قد تحولت إلى درجة معرفية أكبر وإلى وعي أكثر تقدما"(ص143 .)

التكريم موصول بوعي ظلت الشخصية تدافع عنه، فيه تقدير خاص للنساء اللواتي عبرن حياته العاطفية، حب مصون بنظرة تعلي من شأن العلاقات الإنسانية وتتجاوز كل تبخيس تحركه النزوات العابرة... 

كما شمل هذا الإهداء تنويها لجريدة المنظمة التي كانت حافزا في كتابة هذه التجربة الحياتية، وللأستاذ أحمد نشاطي الذي أصر على جمعها في كتاب، اعتراف وامتنان لكل من ساهم في إنقاذ هذه الأوراق من الضياع وبالتالي كان سببا في إخراج الرواية إلى الوجود.

الإهداء العام: في الإهداء العام تم جرد كل المنظمات والجمعيات الحقوقية الدولية والعربية والوطنية التي هبت للدفاع عن المعتقلين السياسيين وآزرتهم في محنتهم سواء أثناء الاعتقال أو أثناء المطالبة بجواز السفر.

إنه اعتراف بالدور الهام الذي قامت به المنظمات الحقوقية عبر بياناتها وتدخلاتها في المحافل الدولية لإدانة الاعتقال، الجائر، وفضح ملابساته ولا شرعيته،وما شابه من انتهاكات جسيمة ومحاكمات صورية....

 

لهذا الإهداء قيمته العاطفية العميقة حينما نفهم طبيعة العلاقة التي كانت بين  المعتقل وأمه وأخته من أبيه التي ربته، فقد عاش طفولة ميزها عدم الاستقرار بعد أن أخد عنوة من أمه لتربيه أخته" التي بدأت تحلم بحيازة أطفال أبيها بعد فصلهما عن أمهما"، وعاش في كنفها كأم لم تبخل عليه من عطفها واهتمامها، وتعلم منها الشيء الكثير ومنها تشرب حمأة النضال والتمرد ورفض الاستغلال،فقد كانت امرأة مناضلة، قوية الشخصية، هربت صور الزعماء أيام الاستعمار، وخبأت الأسلحة وساعدت من أجل تغطية انسحاب الفدائيين ومارست التمويه كي لا تطالهم يد العملاء والاستعمار، وانخرطت في المظاهرات والتجسس على الأعداء..."تزوجت رجالا كثيرين أغلبهم عاطلا عن العمل، وحتى الذين  كانوا يعملون لا تلبث أن تقعدهم...كانت تشتغل خارج الدار وهم يشتعلون داخاها...كانوا يطبخون ويصبنون وأحيانا كثيرة يتلقون منها الصفعات والسباب وياويلهم إذا تلكأوا إذا ما صعدت إلى السرير" ص95 .

امرأة بمثل هذه المواصفات والخاصيات النادرة لا بد أن تنقش على صفحة الطفل مسارات ستوجه ميولاته واختياراته .

ورغم ذلك فقد ظل تعلقه بأمه الحقيقية قائما من خلال اتصاله الدائم معها وتعاظم حبها لديه "لذلك لم تفهم النساء اللواتي عرفناكن بعد خروجك الأول، هذه العلاقة، لأنهن كن يجهلن الحبل السري الذي يربطك بأمك، وقد كن يصبن بما يشبه بالغيرة، بدل أن يبحثن عن التفسير الحقيقي لهذا الحب الذي تفجر بعد الوجع، وهذا التفاهم الكبير الذي مهرته سنوات الاعتقال الطويلة"ص57 . 

تكريم من نوع خاص  لأمهات السجناء على قوة  صبرهن وجلدهن وتحملهن للمشاق وعمق إيمانهن ببراءة الأبناء، كفاح بين دروب المحنة حيث المهانات والانتظارات الطويلة أمام أبواب السجون،والاعتصامات، وعقوق الأصدقاء والأقارب...    

كيف صاغت الرواية تجربة الاعتقال

 

أولا: البنية السردية:

يتسع المشروع السردي للإحاطة بسيرة حياة مفعمة بالألم والأمل، بالخيبات والتضحيات، بالإحباط والحلم، بالإخفاق والطموح، تنوع يسافر عبر فضاءات وأزمنة تتحكم فيه إرسابات الذاكرة وما علق بها من:

 

1- الطفولة:

توقفت الرواية كثيرا عند مرحلة الطفولة وأولتها عناية سردية متميزة، فقد أحاط السارد هذه المرحلة بتيئير خاص نفهم فيه الوضعية السابقة للاعتقال، ونفهم فيه أيضا عددا من الخلفيات والمرجعيات التي ساهمت في تشكيل وعي المعتقل ونضج اختياراته السياسية المؤمنة بالتغيير.

طفولة حائرة ومعذبة بين أمين الأم والأخت،تستحضر تلك التفاصيل الدقيقة التي عاشها الطفل بين أحضان الأخت وبين الأقران لعبا وشغبا ودراسة، وحبا طفوليا لابنة الجيران، وتستحضر ما عاشته العائلة من متاعب وضنك عيش متنقلة بين البيوت باحثة عن استقرار مفقود.

يلتفت السرد لماض بعيد يستنشق فيه المعتقل رائحة الوالد الذي ورث عنه علة التيه والرفض، ويتابع حياته عن طريق ما تحكيه الأخت رقية التي عايشته في تنقلاته العديدة والمتعبة مكررة بطولاته التي نسجت حولها الأساطير

بانتقاله إلى الإعدادية والميتم يبدأ عالم آخر، يعقد صداقات جديدة، وفي الثانوي تبدأ دائرة الانفتاح تتسع عن طريق القراءة وعن طريق أحداث ستشكل الإضرابات أحد مكوناتها الأساسية في التعرف على تناقضات المجتمع المغربي والولوج لعالم النضال من بابه الواسع.

2- الاعتقال:

ترصد الرواية انطلاقا من صفحاتها الأولى تجربة الاعتقال، بمقدمة تصور همجية قدوم المخبرين ليلا، اعتقال رابع بعد سبع سنوات عن الاعتقال الأول، لقد تكررت الزيارات"هذه زيارتهم المافوق المائة، هذا هو الاستنطاق الخامس والتسعون، هذه قيامة أخرى فوق هذه الأرض السعيدة"ص1 . ففي كل مرة يتحرك الشارع، أو تبدو مؤشرات الاحتجاج قائمة يكون المروي له على موعد مع زيارة للاستنطاق.

فعلى ضوء أحداث 1984 وما شهدته من احتجاجات بسبب الزيادات المتوالية في الأسعار، وما عرفته المدن المغربية من انتفاضات شعبية منددة بالوضع الاجتماعي الذي لم يعد يحتمل، تحركت الآلة القمعية للبحث عن نشطاء الأمس، في هذا السياق يأتي هذا الاعتقال الذي يرمي بصاحبه صحبة معتقلي الحق العام، يستأنس بهم ويستأنسون به في انتظار ما تجود به تقارير المسؤولين.

في هذه الضيافة تنتفض الذاكرة عائدة للوراء، سبع سنوات مرت على الاعتقال الأول صحبة محمود والمحجوب في مارس1972، يومها كان عمر الفتى ثمانية عشر ربيعا،وكانت التهمة" الانتماء إلى تنظيم سري ومحاولة زرع الفتنة وقلب النظام بنظام أخر محله ودفع الناس إلى ذلك".

الاعتقال الأول هو ما التفت حوله الرواية مبينة تفاصيله ومآسيه، الاعتقال الرابع معبر لاستذكار المحنة والتعذيب وكذا الشجاعة التي واجه بها المعتقلون جلاديهم.

الاعتقال تجربة أخرى تنتظم فيها علاقات من نوع خاص، مجتمع بدستور متواطأ عليه، يعاد فيه ترتيب الأشياء والأسماء والفضاءات، تتجرد فيه الذات من عاداتها، وتتهيأ للانخراط في وضعيات جديدة، وحينما يستعصى عليها ذلك فإنها تقاوم بكل ما لديها. في هذا السياق تم التركيز على الإضراب الذي خاضه المعتقل صحبة رفاقه والذي دام واحدا وثلاثين يوما،وانتهى بالاستجابة لمطالب المضربين والمتمثلة في"دخول الجرائد والمذياع، تحسين الزيارة، وتخصيص مزار خاص، وتحسين الأكل والمعاملة".

الإضراب عن الطعام تسبقه ترتيبات تبدأ بنقاش حول جدواه وظروفه ومطالبه، وشعاراته والاحتياطات اللازمة لكل مفاجآته، إضافة إلى الدعم الخارجي المفروض توفره، وتبدأ المعركة بهذه الحرب بين الذات ورغباتها."ففي هذه اللحظة بالذات تنفتح كل مسام جسدي للطعام، ويبدأ الجوع والألم وإذا لم أضع اللقمة في فمي فقد يغمى علي، فكيف والطعام برائحته التي تضاعفت قوتها في أنفي"(ص65 .)

تستأنس الذات بمقاومتها ولا يخترق الأمعاء إلا الماء، وتبدأ حالات الإعياء الشديد، تثور في الذهن صور"تصبح قطعة خبز يابس أكثر إغراء من قطعة لحم، صحن حساء يساوي كل الموائد المليئة بالفواكه والشواء"، وتفتح مراكز العناية المركزة أبوابها لاستقبال المضربين وهم في حالة حرجة،ورغم ذلك يستمر الإصرار ببيان يعلن فيه المعتقلون استمرار إضرابهم حتى تحقيق مطالبهم.

إن من يخوض معركة من أجل مبادئ كبرى لا يمكن أن تخبو فيه جذوة الأمل، مهما حاول الجلاد أن يعمق فيه الانكسار،فإن شوكة المقاومة لا تلين تنهض بين الحين والحين مستثمرة كل ما لديها من إمكانات بسيطة، ففي الزنزانة وبشكل جماعي ألف المعتقلون كراسا لتخليد الذكرى العاشرة لانتفاضة 1965 بمدينة الدار البيضاء، وبالرياضة عن طريق الجري ولعب الكرة قاوم الجسد تكلس طبقاته واهتراء بنيانه.

وعلى خلاف معتقلي الحق العام فإن المعتقلين السياسيين وبوعي لافت يحولون فضاء السجن إلى مملكة صغيرة تتوزع فيها الأدوار بشكل ديمقراطي"لا يوجد هناك عاطل، لا يوجد صاحب امتيازات..هذا يكنس أو يجفف البلاط، الآخر يتسلم الماء الساخن..غيره يغسل الأواني..الرابع سيطبخ إذا ما دعت الضرورة..لا فرق بين مهندس أو فلاح أو عامل أو تلميذ..لا فرق بين ابن العائلة الفقيرة والعائلة الضاربة في الغنى والجاه"(ص 86/87)

إن هذا السلوك ليس من ضرورات الحياة الجديدة فحسب بل هو امتداد لفكر من أجله يؤدي المعتقلون ضريبة الاعتقال،إنهم يجسدون مجتمعا ووطنا"خاليا من الاستغلال وغير منقسم لأسياد وخدم" لذلك لا مجال للنزعة الفردانية، فالجماعة تقسم كل الضروريات بما فيها الأكل الذي تبعثه العائلات وكذا الكتب التي يسمح بها والملابس والدواء،ة وكونت لهذا الغرض لجان وزعت فيما بينها المسؤوليات والمهام.

إنها إرادة الحياة التي تنتصر ضد كل بشاعات التعذيب، في المعتقل السري صراخ أحد الرفاق وأنينه تحت التعذيب، الذي استمر من المساء حتى مطلع الفجر، دون انقطاع حال دون التئام الجفون، وزرع في النفس خوفا لا حدود له. أثناء الاستنطاق تكبر المعاناة ويتفنن الجلاد في تهيئ طقوس الحضرة الفولاذية التي تبدأ بالفلقة والخرقة المتسخة وتنتهي بالانهيار،"تبدأ الفلقة، يعلو الصراخ،يتلو ذلك إهمالك معلقا حتى تكاد تسلخ الكتفان عن مكانهما، توضع خرقة متسخة أو جفاف على الوجه والرأس متدلية إلى أسفل، يصب الماء الممزوج بالأوساخ والكريزن على الوجه يبدأ الاختناق تستمر الحفلة حتى تفقد وعيك أو حتى تنهار"(ص160 )

التعذيب الجسدي له ملحقاته التي ترتبط بالوضع العام للمعتقلين داخل السجن، ظروف الإقامة غير الإنسانية في الزنزانة التي لا تتعدى مترا ونصف على مترين وبها مرحاض يشارك النزلاء أكلهم ونومهم، والأفظع من ذلك أن الواحد مطالب بالتبرز في حضرة الآخرين..

في هذا الفضاء الوسخ يستوطن القمل الجلود وينهشها، يحرمها النوم والراحة، عدو خفي يقض المضاجع لذلك ظل المعتقلون" ينهشون جلودهم بأظافر متسخة، يهرشون شعورهم الطويلة المليئة بالقمل الذي أخذت نصيبك منه، يهرشون كل موضع في أجسادهم.."(ص 174)

  

ثانيا:السارد:

 يتم السرد في" ذاكرة الجراح" بضمير المخاطب، وهي وضعية تدفعنا للتساؤل عن الاعتبارات الدلالية للراوي في المؤلف باعتباره ماسكا للخيوط ومنظما لها، وقد تفيدنا نظرية السرد التي لم يعد بإمكانها تجاهل هذه الممارسة السردية خصوصا بعد الانجازات التي حققتها نصوص  روائية أصبحت ذائعة الصيت كرواية التعديل لميشيل بوتور و"هالة" لكارلوس فوينتس...

لقد ميز بريان ريتشارد سون في مقالة قيمة بعنوان" السرد بضمير المخاطب" فنيته ومعناه، وترجمها خيري بدومة، بين ثلاث صيغ للسرد بضمير المخاطب: الصيغة النموذجية standard ، والصيغة الشرطية، والصيغة الموجهة  إلى الذات، وعلى اعتبار أن الصيغة الأولى تتميز بحديث المؤلف المعروف الذي يتوجه مباشرة إلى المروي له أو إلى "القارئ الكريم"، فإن الصيغة الثانية تقترن بالمونولوج الموجه إلى مستمع حقيقي أو متخيل، في حين أن الصيغة الثالثة مشدودة إلى المونولوج الأوتوبيوغرافي.

في لعبة سردية محبوكة، ضمير المخاطب في" ذاكرة الجراح"هو راوي ومروي له في نفس الآن، لذلك توزعت الأزمنة بين الماضي والمضارع، ف"الأنت" راوية ومستقبلة،"بعد أن يجردوك من كل ما يمت للمدنية بصلة، نقودك،حزامك الجلدي،ساعة اليد،أوراقك الثبوتية،خيوط حذائك،مفكرتك الشخصية...وبعد أن توقع في محضر الحاجيات التي قد لا تعود إليك...يدفعونك إلى الزنزانة التي اختاروها لك..."(ص9 .)

ضمير المخاطب يأتي"وسيطا بين ضمير الغائب والمتكلم، فيتنازعه الغياب المجسد في ضمير الغائب ، ويتجاذبه الحضور الشهودي الماثل في ضمير المتكلم، ودوره في الرواية هنا أنه يجعل المروي له، وهو هنا الشخصية الرئيسية، يمعن في الإنصات والاستماع إلى وقائع لا تبدو غريبة عنه،إنها جزء من تكوينه وحياته،لكنها بالانتقال إلى السرد تضع مسافة نفسية تبدو من خلالها الوقائع كأنها حدثت لشخص آخر،"الأنت" هنا شكل مراوغ يقنع التطابق التام بين المؤلف والسارد، لكن الشيء الأكيد أن هذه "الأنت" هي محددة وجهة النظر التي تحلل بها الأشياء والأوضاع، إنها المالكة لوعي طبقي يتماس مع كل الأفكار والخطوات والقرارات التي تتخذها الشخصية في حياتها::أيها الواعظ والمصلح والزعيم السياسي،لا يمكن أن تصبح للكلمات التي تلوكها أمام الناس حول العدالة والأخلاق أية مصداقية،إلا إذا ساهمت بالمال الفائض عن حاجتك للحد من الفقر الحقيقي الذي يدفع للجهل والجهالة وتدني الأخلاق، ولن تستطيع أن تدعي أن، عدوك هو المسؤول عن الشرور"(ص56.)

لا مجال للحياد فالسارد متورط أيضا في هذا النهج الذي اختارته الشخصية مسارا لها، إنه مهووس بحب الوطن وفلسطين والمرأة والحياة الكريمة وحقوق الإنسان وكتابة الشعر..

إن الأنت الساردة إضافة إلى كونها عالمة وعليمة وعارفة بكل تفاصيل حياة المعتقل،فقد ظلت العلاقة بينهما مبنية على المحاورة والتجاوب انطلاقا من تواطؤ وتوافق جعلهما يحترمان قواعد اللعبة السردية .

فالإستراتيجية السردية التي قامت عليها الرواية مستثمرة نظاما لغويا يعطي للذات حقها في التكلم عبر مونولوغات داخلية تشكل وحدات متميزة داخل النص الروائي، وتساهم في تجلية ذلك الصراع الدفين الذي يهز الكيان ويعمق الأسئلة الوجودية التي تحاصر الذات.كذلك فالسارد الموضوعي في الرواية الذي يمثل صورة معادلة لأنا المتكلم يستعين أحيانا بالحوار كمعطى يفسح المجال لشخصيات ثانوية بإثبات حضورها والتعبير عن رؤاها.

وعليه فالمسار الذي قامت عليه الرواية ظل موزعا بين الانكسار والإحباط، والصلابة والتحدي، وجاءت الكتابة لتصوغ أسئلة جوهرية مرتبطة بالماضي وما عرفه من تجاوزات وصراعات كان من نتائجها جراحات وكدمات أصابت النفس والجسد معا، وذلك ما يجعل من هذه الرواية واحدة من أهم التجارب الروائية التي عالجت قضية الاعتقال السياسي بوعي فني متميز.

د. محمد خـفـيفي

 

Publicité
Publicité
Commentaires
KALIMATE كلمات
  • *Kalimate Édition, impression et distribution* *كلمات للنشر والطباعة والتوزيع * * شارع ولي العهد، إقامة ديار 3، عمارة 7، شقة 3 . 11000 سلا* 0664775782 Fax 0537880629
  • Accueil du blog
  • Créer un blog avec CanalBlog
Publicité
Publicité